منفى داخل المنفى.. المهاجرين الأفارقة بلا حقوق في تونس

منفى داخل المنفى.. المهاجرين الأفارقة بلا حقوق في تونس

في زاوية معزولة من إحدى غابات الزيتون على أطراف مدينة صفاقس التونسية، يقف شارل، الشاب الكاميروني الذي يبلغ من العمر 26 عامًا، متأملاً بقايا خيم محترقة وممتلكات مبعثرة في العراء. 

يشير بيده إلى بقعة سوداء على الأرض ويقول: "هنا كانت خيمتي، وهنا أحرقت الشرطة ملابسي وكل ما كنت أملك، لم يتركونا حتى نحمل شيئًا معنا".

وصل شارل إلى تونس منذ 3 سنوات، فارًّا من ظروف معيشية قاسية في الكاميرون، على أمل أن يجد في هذه البلاد محطة آمنة مؤقتة قبل أن يكمل طريقه نحو الضفة الأخرى من المتوسط، لكن ما واجهه، كما يقول، كان أشد قسوة مما هرب منه. 

وقال شارل، "حين وصلت إلى صفاقس، كنت أعتقد أنني سأجد فرصة عمل أعيش بها حتى أتمكن من عبور البحر، في البداية، سكنت مع أصدقاء لي في غرفة مستأجرة، لكن الوضع الأمني تغيّر، وبدأت حملات مكثفة ضد المهاجرين الأفارقة، داهمت الشرطة المنزل ذات ليلة واعتقلونا جميعًا".

قضى شارل فترة في السجن، وبعد خروجه، وجد نفسه بلا مأوى، لجأ إلى مخيم عشوائي في إحدى الغابات المحيطة بالمدينة، حيث يقيم مئات المهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء في ظروف صعبة.

وتابع "نعيش منذ شهور في خيام مهترئة تحت أشجار الزيتون، بلا ماء ولا طعام ولا رعاية طبية، حتى من كان يحاول مساعدتنا من سكان المدينة أو الجمعيات الإنسانية أصبح مهددًا بالتوقيف، لا أحد يجرؤ الآن على الاقتراب منا".

يتحدث شارل عن المداهمات الأمنية المتكررة، وعن ممارسات العنف التي يواجهونها، قائلًا: "في كل مرة نُطرد من مكان، نحمل ما تبقى من أغراضنا ونهرب إلى منطقة أخرى، الأسبوع الماضي جاء الأمن بقنابل الغاز والرصاص المطاطي وهاجمونا، ومعهم وفد من منظمة الهجرة الدولية والهلال الأحمر.. عرضوا علينا العودة إلى بلادنا، بعض أصدقائي وافقوا، ركبوا حافلات ولم نعرف عنهم شيئًا منذ ذلك اليوم".

تفاقمت الأزمة مع صدور قرارات رسمية تمنع المهاجرين الأفارقة من العمل في عدة قطاعات حيوية، مما زاد من معاناتهم، وقال شارل "كنت أعمل في شركة بسيطة، وفجأة طُردت بحجة القرار الجديد، وأصبح من المستحيل إيجاد عمل أو حتى استئجار غرفة، كل الأبواب أغلقت في وجوهنا".

ومع تصاعد الأزمة، أغلقت مفوضية شؤون اللاجئين مكتبها الرئيسي في تونس، لتترك المهاجرين في مواجهة مصيرهم وحدهم،"لم يعد لنا أي جهة تحمينا، نحن عالقون هنا، بلا حقوق، نخشى النوم، نخشى الخروج، نخشى حتى المساعدة من أحد".

ورغم هذا كله، لا يزال شارل يتمسك بحلمه في الوصول إلى أوروبا، حيث قال "أحلم أن أعيش في مكان يعاملني فيه الناس كإنسان. لا أطلب شيئًا كثيرًا.. فقط مكان آمن أعمل فيه وأبني مستقبلي".

مداهمات واعتقالات

قصة شارل واحدة من آلاف الحكايات المتشابهة في تونس، لمهاجرين عالقين بين التشريد والخوف، يبحثون عن نجاةٍ قد تأتي.. أو لا تأتي.

وتشهد تونس منذ أكثر من عام أزمة متصاعدة تتعلق بالمهاجرين الأفارقة من دول جنوب الصحراء، الذين يتخذ كثير منهم من البلاد محطةً للعبور نحو أوروبا، في حين تقطعت السبل بآخرين ليعلقوا في أوضاع معيشية بالغة القسوة. 

ومع تصاعد حملات التضييق الأمنية وصدور قرارات حكومية تمنع تشغيلهم في قطاعات حيوية كالزراعة والإنشاءات والمطاعم، وجد آلاف المهاجرين أنفسهم بلا مصدر رزق أو مأوى.

وتفاقمت الأزمة أخيراً مع تصاعد التوترات في مدينة صفاقس، التي تضم أكبر تجمع للمهاجرين الأفارقة في تونس، حيث تتعرض مخيماتهم لمداهمات متكررة، وتُنصَب حواجز أمنية في مداخل الأحياء التي يسكنونها. 
وأفادت منظمات حقوقية بتسجيل انتهاكات واسعة بحقهم، شملت الاعتداءات الجسدية والطرد القسري من أماكن السكن، فضلًا عن حملات ترحيل قسرية وإبعاد نحو الحدود مع ليبيا والجزائر.

وقال الناشط الحقوقي، رمضان بن عمر، الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية: واقع اللاجئين والمهاجرين وطالبي اللجوء في تونس هو واقع مأساوي، نتيجة للخيارات التي اتخذتها الدولة التونسية، خاصة بعد الخطاب الذي أُلقِي في عام 2023، والذي عدّ وجود المهاجرين في تونس جزءاً من مؤامرة تهدف إلى تغيير التركيبة الديموغرافية. 

وأضاف: تَبع هذا الخطاب عمليات إيقاف عشوائية للمهاجرين بحجة الإقامة غير النظامية، شملت جميع فئات المهاجرين، بما في ذلك أولئك الذين يقيمون بوضع إداري سليم في البلاد. ولم تتوقف هذه الحملة، خاصة بعد انخراط تونس في مسار زاد من تعقيد الأزمة وأدى إلى تفاقم وضعهم. وأصبحنا نشهد عمليات طرد وصد بالقوة على السواحل التونسية وغابات الزيتون، كما تصاعد هذا الخطاب على شبكات التواصل الاجتماعي واستُغِل من قبل بعض السياسيين.

وتابع: يتعرض المهاجرون في تونس لعدة انتهاكات. أولاً، هناك الانتهاكات المؤسساتية، وهي تلك التي ترتكبها مؤسسات الدولة، حيث تلاحق المهاجرين بسبب لونهم أو تحرمهم من الحصول على الوظائف الإدارية، وتقوم بالاحتجاز، الاعتقال، والإيقاف، والطرد إلى الحدود دون ضمانات قانونية أو إمكانية الاتصال بمنظمات المجتمع المدني.

وقال: يتمثل جزء من هذا العنف المؤسساتي في منع المهاجرين من العمل، التنقل، والإقامة نتيجة للنظام القانوني القائم، بالإضافة إلى ذلك، يُمارس عنف اقتصادي واجتماعي ضد المهاجرين، في ظل الوضع الهش الذي يعيشون فيه، يستغل البعض هذا الوضع لتوظيفهم بأجور أقل من التونسيين، مع ساعات عمل أطول وظروف عمل قاسية، بالإضافة إلى غياب الحماية الاجتماعية وغيرها من الانتهاكات، وهناك أيضاً انتهاكات ثقافية مرتبطة بمشاعر الكراهية والعداء التي تتزايد في تونس، رغم وجود قانون يجرم التمييز العنصري، للأسف، أصبحت هذه الانتهاكات تتمتع بالإفلات من العقاب، حيث نشهد تصريحات في وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية، والتي تُترجم إلى واقع في الميدان.

العيش بلا مأوى أو حقوق

وعن الفئات الأكثر تعرضاً للانتهاكات، قال بن عمر: تتعرض الفئات الأكثر هشاشة، مثل النساء والأطفال، لانتهاكات إضافية، مثل منعهم من الحصول على الخدمات الصحية الأساسية، الحق في التعليم، العلاج، الغذاء الكافي، المياه، وغيرها من الخدمات الأساسية، كما تواجه بعض الفئات انتهاكات داخل الأبواب المغلقة، مثل المهاجرات العاملات في المنازل والمزارع في مناطق نائية ومعزولة، هذه الانتهاكات تشمل أيضاً المخيمات، حيث يتعرض المهاجرون لانتهاكات إما من المؤسسات الرسمية مثل بعض الأجهزة الأمنية، أو من المجتمع المحلي، أو حتى من داخل مجتمع المهاجرين أنفسهم، نتيجة للسياسات التي تخلقها الدولة، والتي تساهم في تنامي العنف داخل هذا المجتمع، حيث تكون النساء والأطفال هم الأكثر تضرراً.

وأشار بن عمر إلى أن التونسيين أبدوا في وقت سابق تضامناً واسعاً مع المهجّرين القادمين من الأزمة الليبية، حينها، كانت تونس قد استقبلت أعداداً كبيرة منهم، وشهدت البلاد هبّة سياسية وشعبية عارمة عبّرت عن موقف وطني وإنساني في تلك المرحلة. غير أن السياق السياسي والاجتماعي تغيّر، فتراجع هذا الزخم التضامني، والوضع الراهن يكشف عن صعوبات متزايدة في التعامل مع هذا الملف، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة والاحتقان الاجتماعي الذي تعيشه تونس.

ويؤكد أن هناك تيارات سياسية تستغل خطاب الكراهية ضد المهاجرين وتسعى لتوظيف هذا الملف للضغط على السلطة، وفي المقابل، هناك جهات وسلطات أخرى تتبنّى هذا الخطاب ذاته وتسعى إلى توسيعه لتحقيق مكاسب سياسية واجتماعية. أما على المستوى التشريعي، فثمة فراغ واضح؛ إذ إن المنظومة القانونية الحالية لا توفر الإطار الملائم لحماية المهاجرين وضمان حقوقهم، ولا تضع آليات واضحة لتنظيم وجودهم أو التعامل معهم بطريقة تحفظ كرامتهم وحقوق المواطنين التونسيين في آنٍ واحد، وبذلك، تجد تونس نفسها اليوم في حاجة ماسّة إلى إصلاحات تشريعية عاجلة، وإلى سياسات إنسانية واضحة تنظّم هذا الملف، بما يحقق توازنًا دقيقًا بين مقتضيات البعد الإنساني ومتطلبات المصلحة الوطنية.

وبحسب تقارير هيومن رايتس ووتش لعام 2024، يتعرض المهاجرون لانتهاكات متعددة من بينها الطرد القسري، والاعتقالات التعسفية، وسوء المعاملة على يد قوات الأمن، وقد سجلت المنظمة حالات إبعاد جماعي نحو الحدود الصحراوية مع ليبيا والجزائر، دون توفير أدنى مقومات الحماية أو الرعاية.

وفي السياق، أظهر تقرير مركز الهجرة المختلطة عن الربع الرابع لعام 2024، أن سياسة التعامل مع المهاجرين في تونس أصبحت أكثر تشددًا، مع زيادة حملات الإبعاد والتفكيك القسري للمخيمات العشوائية، كما كشف التقرير عن تزايد عمليات العودة الطوعية التي يدعمها الاتحاد الأوروبي، وسط ظروف معيشية صعبة وحرمان من الخدمات الأساسية كالصحة والمياه والغذاء.

وأفادت التقارير أن السلطات التونسية أقدمت أخيرًا على تفكيك مخيمات تؤوي قرابة 7,000 مهاجر إفريقي، مع ترحيل البعض قسراً واحتجاز آخرين في ظروف قاسية. 

وأكد التقرير أن تلك الإجراءات أثارت قلق المنظمات الحقوقية الدولية، التي طالبت بضمان سلامة المهاجرين واحترام حقوقهم الأساسية.

جهود حقوقية

وفي تطور خطِر، أعلنت المفوضية الأوروبية منتصف أبريل 2025 عن إدراج تونس ضمن قائمة "الدول الآمنة" لإعادة طالبي اللجوء المرفوضين، وهو القرار الذي ووجه بانتقادات واسعة من منظمات حقوقية اعتبرت أن هذا التصنيف يتجاهل الواقع المأساوي الذي يعيشه المهاجرون في تونس، حيث يتعرضون للتمييز والعنف والإهمال.

وفي ظل هذه الأوضاع، أغلقت مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة مكتبها الرئيسي في تونس، ما عمّق عزلة المهاجرين وقلّص من فرصهم في تلقي الدعم الإنساني أو تسوية أوضاعهم القانونية، وبات المهاجرون يواجهون خيارات محدودة: إما التشرد في العراء، أو الخضوع لحملات العودة الطوعية إلى بلدانهم الأصلية، أو المجازفة بمحاولة عبور البحر نحو مصير مجهول.

ولكن رغم الاعتراف رغم الاعتراف بوجود ظروف إنسانية صعبة يعيشها عدد كبير من المهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء في تونس، إلا أن الأزمة باتت تمسّ المجتمع التونسي أيضاً، حيث قالت الناشطة في المجتمع المدني، ريم حمدي، إن أزمة المهاجرين الأفارقة لم تعد تمسّ هؤلاء المهاجرين وحدهم، بل أصبحت تمثل عبئًا متزايدًا على المجتمع التونسي بأسره، لا سيما في منطقة العامرة التي باتت تشهد أوضاعًا اجتماعية وصحية متدهورة مع تزايد أعداد الوافدين. 

وأشارت إلى أن انتشار أمراض خطيرة مثل السل، والسرطان، والجدري داخل بعض التجمعات العشوائية يثير قلق السكان ويهدد الصحة العامة.

أوضاع اقتصادية متردية

وأضافت الناشطة أن الأوضاع الاقتصادية المتردية في تونس، وارتفاع الأسعار بشكل عام، تفاقمت بسبب الضغط الكبير على الموارد والخدمات، خاصة وأن المهاجرين يشترون السلع الأساسية بأسعار مرتفعة، ما يزيد من معاناة المواطنين التونسيين في ظل الغلاء.

وأوضحت أن حالة من الفوضى تسود المنطقة، مع تصاعد حوادث العنف والسرقة، ما دفع السكان إلى التزام منازلهم مع حلول الليل، خوفًا من الاعتداءات. 

وأكدت أن السلطات على علم بهذه الأوضاع، وقد رُفعت إليها تقارير موثقة وفيديوهات توثّق تلك الانتهاكات والأخطار، لكن حتى اللحظة لم يُتخذ موقف حازم لمعالجة الأزمة من جذورها.

واختتمت الناشطة بتأكيدها أن منطقة العامرة وحدها تضم اليوم قرابة 44 ألف مهاجر إفريقي يعيشون في ظروف عشوائية، ما يتطلب تحركًا جادًا وعاجلًا من الدولة لإيجاد حلول متوازنة تحمي حقوق الجميع وتحافظ على استقرار المجتمع.

وقالت إنه في ظل تصاعد معاناة المهاجرين الأفارقة في تونس، ووسط تضييق الأفق أمامهم وأمام المجتمع المحلي على حدّ سواء، تبرز الحاجة الملحّة لطرح حلول حقيقية وعادلة تُراعي كرامة الإنسان وتحمي استقرار المجتمعات. فالأزمة لم تعد مجرد ملف عبور غير شرعي أو أزمة لجوء، بل تحولت إلى معضلة إنسانية واجتماعية وصحية وأمنية متشابكة الأطراف.

وأشار إلى أن تجاهل الأزمة سيزيد من حجم الانفجار الاجتماعي والصحي في مناطق مثل صفاقس والعامرة. والأكيد أيضًا أن المهاجرين، وبينهم شارل وآلاف مثله، لن يتوقفوا عن الحلم بمكان آمن.. سواء هنا، أو على الضفة الأخرى من المتوسط.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية